تعدد الشخصية (اضطراب الهوية الانفصامية)

تعدد الشخصيات، أو ما يُعرف علميًا باسم اضطراب الهوية الانفصامية (Dissociative Identity Disorder – DID)، هو أحد أكثر الاضطرابات النفسية إثارة للجدل والاهتمام في علم النفس والطب النفسي. يتمثل هذا الاضطراب في وجود هويات أو شخصيات متعددة داخل الفرد الواحد، بحيث تمتلك كل شخصية أنماطًا مختلفة من التفكير والمشاعر والسلوك، وقد تظهر هذه الشخصيات في أوقات متباينة للتحكم في وعي الفرد.
وفقًا لـ الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية DSM-5: اضطراب الهوية الانفصامية هو وجود هويتين أو أكثر داخل الفرد، لكل منهما إدراكها الخاص للذات والعالم، مع حدوث فقدان متكرر للذاكرة لا يمكن تفسيره بالنسيان الطبيعي.
بعض الباحثين يرون أن الاضطراب نادر وربما كونه “مُنتشرًا” نتيجة تأثير الأطباء أو الإعلام.
يُقدّر انتشاره عالميًا من 1 – 3% من السكان، وهو أعلى مما يعتقده كثيرون.
أعراض تعدد الشخصية (بالتفصيل)
1- وجود هويات متعددة (Alter Personalities)
قد يكون للفرد شخصيتان أو أكثر، كل منها لها أسلوبها في التفكير، طريقة الكلام، الانفعالات، وحتى المواقف الأخلاقية، حيث تختلف الشخصيات في:
- العمر (قد تكون شخصية طفل صغير أو شخص بالغ).
- الجنس (قد تتبنى إحدى الشخصيات هوية ذكر والأخرى هوية أنثى).
- اللغة أو اللهجة (بعض الشخصيات قد تستخدم كلمات أو نبرة صوت مختلفة كليًا).
- الميول والهوايات (إحداها قد تحب العزلة، والأخرى اجتماعية ومندفعة).
- الانتقال بين الشخصيات قد يكون سريعًا (ثوانٍ) أو يستغرق ساعات أو أيام.
2- فقدان الذاكرة (Amnesia)
فقدان ذاكرة فجائي ومتكرر لا يمكن تفسيره بالنسيان العادي، حيث يمكن أن يشمل:
- نسيان أحداث يومية بسيطة (مثل مقابلة أشخاص أو أداء مهام).
- نسيان مراحل زمنية كاملة (ساعات أو أيام من حياتهم).
- نسيان أحداث صادمة من الماضي، خصوصًا في الطفولة.
- غالبًا ما يقول المحيطون إن المصاب يتصرف وكأنه “شخص آخر” ولا يتذكر لاحقًا ما فعله.
3- التقلبات المزاجية الحادة (Mood Swings)
تتبدل المشاعر بشكل مفاجئ وغير مبرر، نتيجة انتقال السيطرة بين الشخصيات، منها:
- التحول من الهدوء الشديد إلى نوبات غضب مفاجئة.
- الانتقال من الحزن العميق إلى الحماس والاندفاع.
- ظهور خوف أو قلق شديد بلا سبب واضح للمحيطين.
- هذه التغيرات قد تخلق صعوبة في التنبؤ بسلوك الفرد وتثير توترًا في علاقاته.
4- الإحساس بالانفصال عن الذات (Depersonalization)
- شعور غريب وكأن الشخص يراقب نفسه من الخارج.
- قد يصف المصاب إحساسه بأنه يشاهد حياته كفيلم أو كأنه يتحكم بجسد ليس جسده.
- يرافقه أحيانًا شعور بالانفصال عن العالم (Derealization) أي أن البيئة المحيطة تبدو غير واقعية أو ضبابية.
5- صعوبات في الحياة اليومية (Daily Life Dysfunction)
- في العمل: ضعف التركيز، نسيان المهام، أو التصرف بطرق غير متوقعة.
- في الدراسة: فقدان القدرة على متابعة الدروس أو أداء الامتحانات بانتظام.
- في العلاقات الاجتماعية: توتر العلاقات بسبب تغير الشخصيات، إذ قد تكون إحداها ودودة وأخرى عدوانية.
- في المهام البسيطة: كقيادة السيارة، إدارة المال، أو حتى تذكر مكان الأشياء الشخصية.
6- تغييرات في الجسد والسلوك (Somatic and Behavioral Changes)
بعض الشخصيات قد تُظهر اختلافات في:
- نبرة الصوت أو أسلوب الكلام.
- لغة الجسد (شخصية واثقة مقابل شخصية منغلقة).
- الحاجات الجسدية: تغييرات في الشهية أو النوم.
- في بعض الحالات النادرة، قد تظهر فروقات في المشاكل الصحية (مثلاً إحدى الشخصيات تحتاج نظارات بينما الأخرى لا).
7- الهلاوس والأعراض المصاحبة
- قد يسمع المصاب أصواتًا داخلية تمثل الشخصيات الأخرى، وتوجهه أو تتحدث معه.
- في بعض الحالات، يشعر بوجود قوة “تسيطر” على أفعاله.
- هذه الظاهرة قد تجعل الاضطراب يُخلط أحيانًا مع الفصام، لكن الفارق أن الأصوات هنا مرتبطة بالهويات الداخلية وليست أوهامًا ذهانية خارجية.
8- أعراض نفسية مصاحبة
- القلق المزمن.
- نوبات اكتئاب حادة.
- إيذاء النفس أو ميول انتحارية عند بعض الحالات نتيجة فقدان السيطرة.
- اضطرابات النوم مثل الكوابيس المتكررة.
9- أعراض جسدية مرتبطة بالاضطراب
- صداع متكرر أو آلام جسدية بلا سبب عضوي واضح.
- فقدان الإحساس بالزمن (يشعر أن الوقت يمر بسرعة أو ببطء شديد).
- شعور بالتعب والإرهاق المستمر نتيجة الضغط النفسي والانتقالات المتكررة بين الشخصيات.
أسباب وعوامل تعدد الشخصية
1- الصدمات النفسية المبكرة (Early Trauma)
تعد العامل الأكثر شيوعًا، إذ يُلاحظ أن أغلب المصابين تعرضوا لـ إيذاء شديد في الطفولة، ومن أشكال الصدمات:
- الإيذاء الجسدي (الضرب المبرح أو التعذيب).
- الإيذاء النفسي والعاطفي (الإهانة المستمرة، الحرمان من الحب والدعم).
- الاعتداء الجنسي، ويُعتبر من أقوى المسببات.
- الإهمال الأسري، حيث ينشأ الطفل دون رعاية أو حماية.
- يؤدي ذلك إلى شعور الطفل بالعجز والخوف، فيلجأ العقل إلى تفتيت الهوية كطريقة للهروب من المعاناة.
2- آليات الدفاع النفسي (Psychological Defense Mechanisms)
- الطفل الذي يواجه معاناة لا يستطيع التعامل معها يطور آلية تُعرف بـ الانفصال (Dissociation).
- معنى ذلك: يقوم العقل بفصل الوعي عن التجربة المؤلمة، وكأنها حدثت لشخص آخر.
- مع تكرار هذه الاستراتيجية، تتشكل “شخصيات بديلة” (Alters) تقوم بدور الحامي أو المتحمل للألم بدل الشخصية الأصلية.
3- العوامل العصبية (Neurological Factors)
الأبحاث الحديثة تشير إلى أن الدماغ لدى المصابين يختلف وظيفيًا وبنيويًا عن الأشخاص العاديين، من حيث:
- الحُصين (Hippocampus): يتأثر حجمه ووظيفته، مما يفسر اضطرابات الذاكرة.
- اللوزة الدماغية (Amygdala): مسؤولة عن الاستجابة للخوف والانفعال، وغالبًا تكون مفرطة النشاط.
- القشرة أمام الجبهية (Prefrontal Cortex): ضعف في التنظيم العاطفي وصعوبة الدمج بين الذكريات.
- دراسات تصوير الدماغ (fMRI) أظهرت أن بعض الشخصيات البديلة تُنشط مناطق عصبية مختلفة عن الشخصية الرئيسية، مما يدل على وجود أساس بيولوجي حقيقي للاضطراب.
4- العوامل الوراثية والبيولوجية (Genetic & Biological Factors)
- لم يتم إثبات وجود جين محدد للاضطراب، لكن هناك قابلية وراثية لاضطرابات القلق والاكتئاب والانفصال
- بعض الدراسات تشير إلى أن الأطفال ذوي استعداد وراثي مع تعرضهم لصدمة نفسية يكونون أكثر عرضة لتطوير تعدد الشخصية.
- ضعف في التوازن الكيميائي العصبي (مثل السيروتونين والدوبامين) قد يزيد من القابلية للانفصال والاضطراب.
5- العوامل البيئية والاجتماعية (Environmental & Social Factors)
- غياب الدعم الأسري: عندما يكبر الطفل دون حماية أو حب من الأسرة، يفتقد القدرة على مواجهة الأزمات.
- الضغط النفسي المستمر: مثل الحروب، الفقر، أو الاضطرابات المجتمعية.
- العزلة الاجتماعية: قلة العلاقات الداعمة تزيد من هشاشة البنية النفسية.
- النماذج السلبية: إذا نشأ الطفل في بيئة يسودها العنف أو الإدمان، تتضاعف احتمالية الانفصال النفسي.
6- الارتباط باضطرابات أخرى (Comorbidity)
غالبًا ما يظهر تعدد الشخصية مصحوبًا باضطرابات أخرى مثل:
- اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD).
- القلق العام.
- الاكتئاب المزمن.
- اضطرابات النوم (كوابيس، أرق).
- هذه الاضطرابات تعمل كـ عوامل مساهمة ومُضاعِفة للانفصال وتجزئة الهوية.
7- نظرية الضعف + الضغط (Diathesis + Stress Model)
التفسير الأكثر شمولًا هو أن تعدد الشخصية ينشأ من: قابلية داخلية تتكزن من (ضعف وراثي/بيولوجي/نفسي) + تعرض لضغط أو صدمة شديدة في الطفولة
أي أن العوامل الداخلية تهيئ الفرد، بينما التجارب الصادمة تفعّل الاضطراب.
علاج تعدد الشخصية
1- العلاج النفسي (Psychotherapy)
يُعتبر الركيزة الأساسية في العلاج، ويشمل:
المعالجة بالكلام (Talk Therapy)
- يهدف إلى استكشاف التجارب الصادمة في الطفولة.
- يساعد على إعطاء كل “شخصية بديلة” فرصة للتعبير، ثم توحيد السرد النفسي تدريجيًا.
- يخلق مساحة آمنة للمريض ليواجه ذكرياته المؤلمة دون إنكار أو تفكك.
العلاج السلوكي المعرفي (CBT)
- يعمل على تعديل الأفكار المشوهة (مثل: “أنا عديم القيمة”، “لا أستطيع السيطرة على حياتي”).
- يساعد على تطوير مهارات المواجهة بدلًا من الهروب إلى الانفصال.
- يستخدم في تقليل القلق والاكتئاب المصاحبين.
العلاج الجدلي السلوكي (DBT)
- ينظيم الانفعالات (مثل نوبات الغضب المفاجئ).
- يعزز التسامح مع التوتر (بدل الانفصال عن الواقع).
- يرفع من اليقظة الذهنية (Mindfulness) لمساعدة المريض على البقاء في الحاضر.
2- العلاج المتمركز حول الصدمة (Trauma-Focused Therapy)
جوهر العلاج لتعدد الشخصية، حيث يعمل على معالجة الجذور الصادمة بدلًا من مجرد التعامل مع الأعراض ويشمل تقنيات مثل:
إعادة معالجة الصدمات (EMDR): حيث تُستخدم حركات العين لمساعدة الدماغ على إعادة ترميز الذكريات المؤلمة.
العلاج السردي (Narrative Therapy): إعادة كتابة قصة الحياة بطريقة أكثر تماسكًا وأقل ألمًا.
العلاج التكاملي (Integrative Therapy)
3- العلاج الدوائي (Medication)
لا يوجد دواء مخصص لعلاج تعدد الشخصية نفسه، لكن الأدوية تُستخدم لعلاج الاضطرابات المرافقة:
- مضادات الاكتئاب (SSRIs, SNRIs): لتقليل الاكتئاب والشعور بالذنب.
- مضادات القلق (Anxiolytics): للتخفيف من التوتر ونوبات الهلع.
- مضادات الذهان الخفيفة (Atypical Antipsychotics): في الحالات التي تظهر فيها أعراض انفصالية شديدة أو هلوسات.
- منظمات المزاج (Mood Stabilizers): إذا كان هناك تقلبات حادة في المزاج.
ملاحظة: الأدوية وحدها لا تكفي أبدًا، بل تُعتبر مساندة للعلاج النفسي.
4- الدعم الاجتماعي والأسري
الدعم الأسري عنصر حاسم، حيث يساعد على:
- توفير بيئة آمنة خالية من العنف أو الانتقاد.
- فهم أن “تعدد الشخصيات” ليس تمثيلًا، بل اضطراب حقيقي.
- مساعدة المريض على الالتزام بالعلاج ومنع العزلة.
5- العلاجات المساندة (Complementary Approaches)
- التأمل واليوغا: لزيادة الوعي الجسدي وتقليل الانفصال.
- الكتابة العلاجية (Therapeutic Journaling): لتوثيق مشاعر وتجارب الشخصيات المختلفة.
- الفن والموسيقى العلاجية: للتعبير عن المشاعر المكبوتة.
- العلاج بالحيوانات (Animal-Assisted Therapy): يساعد على بناء روابط آمنة ويعزز الثقة.
6- مراحل العلاج (Phases of Treatment)
عادة ما يُقسم علاج تعدد الشخصية إلى 3 مراحل:
أ- مرحلة الاستقرار (Stabilization):
- تقليل السلوكيات الخطيرة (إيذاء النفس).
- تعليم مهارات المواجهة وتنظيم الانفعالات.
ب- مرحلة معالجة الصدمات (Trauma Processing):
- مواجهة الذكريات المؤلمة وإعادة دمجها.
- بناء سرد موحّد للأحداث.
ج- مرحلة التكامل وإعادة التأهيل (Integration & Rehabilitation):
- دمج الشخصيات في هوية واحدة متماسكة.
- إعادة بناء الحياة الاجتماعية والمهنية.
الخاتمة
تعدد الشخصيات ليس مجرد حالة غريبة أو سينمائية، بل اضطراب معقد يعكس قدرة العقل البشري على “التجزؤ” كآلية دفاعية أمام الصدمات. ورغم صعوبة العلاج، فإن التدخل المبكر والدعم النفسي المستمر يساعدان المصابين على إدارة حياتهم بفاعلية أكبر.
ماذا يقدم موقع سيكولوجي بالعربي؟
يقدم علاج رسمي لجميع الاضطرابات النفسية او الامراض النفسية بأيدي مستشارين الموقع المختصين