الاكتئاب: فهم شامل لأسبابه، أعراضه، وطرق التعامل معه

يُعد الاكتئاب أحد أكثر الاضطرابات النفسية شيوعًا في العالم الحديث، ولا سيما في المجتمعات التي تتسم بالتسارع وضغوط الحياة اليومية. وعلى الرغم من شيوعه، إلا أن فهمه لا يزال مشوشًا لدى العامة، مما يجعل التوعية به ضرورة علمية وصحية واجتماعية.
أما عن تعريف الاكتئاب: فهو اضطراب نفسي يؤثر على المشاعر والتفكير والسلوك، ويُترجم عادة بمشاعر حزن عميق، فقدان الاهتمام، وتراجع في الوظائف اليومية. ليس مجرد شعور عابر بالحزن، بل حالة مرضية تتطلب تدخلًا علاجيًا.
أظهر تحليل بيانات من قاعدة GBD أنَّ العبء المتعلق باضطرابات الاكتئاب في المنطقة قد ازداد بين عامي 1990 و2019، خاصّة في دول مثل السعودية ولبنان، والسبب في ذلك يعود إلى تغيّرات ديموغرافية، صراعات مستمرة، وضغوط اقتصادية وسياسية.
في الأردن، أظهرت دراسة وطنية أن حوالي 34% من المراهقين (الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و17 عامًا) يعانون من أعراض اكتئابية تراوح ما بين المتوسط إلى الشديد، مع ارتفاع ملحوظ بين الإناث والأفراد من خلفيات اجتماعية واقتصادية ضعيفة .
كذلك، في دراسة جُدّدت عام 2024 على طلبة جامعات في جدة، تبين أن 81.5% منهم أفادوا بوجود أعراض اكتئاب، وارتبطت هذه الأعراض بعوامل مثل كونهم من الإناث، وجود أمراض مزمنة أو تاريخ نفسي مسبق .
أعراض الاكتئاب
- الحزن المستمر أو الشعور بالفراغ.
- فقدان الاهتمام أو المتعة في الأنشطة.
- تغير في الشهية أو الوزن.
- اضطرابات النوم (أرق أو نوم مفرط).
- الشعور بالذنب أو انعدام القيمة.
- صعوبة في التركيز أو اتخاذ القرار.
- التعب أو فقدان الطاقة.
- التفكير في الموت أو الانتحار.
أسباب الاكتئاب
1- الوراثة (Genetics)
تم تحديد عدة جينات يشتبه في مساهمتها، مثل الجين المسؤول عن مستقبلات السيروتونين (5-HTTLPR).
وذلك أنه إذا كان أحد الوالدين أو كليهما قد عانى من اضطراب اكتئابي كبير (Major Depressive Disorder)، فإن احتمال إصابة الأبناء يرتفع بنسبة تصل إلى 2 إلى 3 أضعاف مقارنة بمن لا يوجد في عائلتهم تاريخ مماثل.
2- الاختلالات الكيميائية في الدماغ (Neurochemical Imbalance)
انخفاض مستويات السيروتونين يرتبط بالحزن المزمن والقلق، بينما انخفاض الدوبامين قد يسبب انعدام المتعة وقلة الدافع.
ذلك أن مرضى الاكتئاب المقاوم للعلاج يُظهرون انخفاضًا واضحًا في نشاط النواقل العصبية عند التصوير بالرنين الوظيفي (fMRI).
3- الضغوط النفسية والاجتماعية (Psychosocial Stressors)
- الفقد: وفاة أحد الوالدين في الطفولة المبكرة يزيد خطر الاكتئاب لاحقًا.
- الطلاق: الانفصال العاطفي يرفع احتمال ظهور أعراض اكتئابية خصوصًا في النساء.
- البطالة: بطالة طويلة الأمد تسبب شعورًا بعدم القيمة، وقد تؤدي إلى اضطراب اكتئابي جسيم.
- الصدمات المبكرة: مثل الاعتداء الجنسي أو الإهمال في الطفولة، تؤدي لتغيرات دائمة في الدماغ ترتبط بالاكتئاب لاحقًا.
4- الأمراض الجسدية المزمنة (Chronic Physical Illnesses)
- السرطان: نحو 25–30% من مرضى السرطان يصابون باكتئاب سريري أثناء رحلة العلاج أو بعدها.
- أمراض القلب: بعد الإصابة باحتشاء عضلة القلب (Heart Attack)، يُصاب قرابة 20% من المرضى بأعراض اكتئابية.
- السكري: الاكتئاب يصيب حوالي 15–20% من مرضى السكري، نتيجة التعايش مع المرض ومضاعفاته.
- الفشل الكلوي: الاكتئاب شائع بين مرضى غسيل الكلى (Hemodialysis)، ويقدّر أن نحو 25–30% منهم يعانون من اضطرابات اكتئابية.
- التصلب اللويحي (Multiple Sclerosis): نسبة الإصابة بالاكتئاب فيه تتراوح بين 40–50%، بسبب تفاعل التغيرات العصبية والضغوط النفسية.
5- استخدام بعض الأدوية والعلاجات (Pharmacological Side Effects)
- الكورتيزون: الاستخدام الطويل له يسبب تغيرات مزاجية قد تصل إلى الاكتئاب.
- مضادات ارتفاع الضغط مثل β-blockers: تسبب لدى بعض المرضى حالة من الكسل الذهني والحزن.
- حبوب منع الحمل (عند بعض النساء): تؤدي أحيانًا إلى تقلبات مزاجية واكتئاب خفيف أو متوسط.
- الكورتيكوستيرويدات (مثل Prednisone): تسبب تغيرات مزاجية قد تصل إلى الاكتئاب الحاد، خاصة عند الجرعات العالية.
- أدوية ارتفاع ضغط الدم (مثل Beta-blockers): قد تسبب أعراض اكتئابية لدى البعض.
- العلاج الكيماوي: إضافة إلى تأثيره الجسدي، يؤثر على الحالة النفسية ويُضعف السيروتونين والدوبامين، مما يعزز فرص الاكتئاب.
6- الإدمان بكل أنواعه السلبية (Addiction)
- إدمان الكحول: نحو 30–40% من المدمنين على الكحول يعانون من الاكتئاب المتزامن، وقد يكون السبب بيولوجيًا أو نتيجة الضغوط والانعزال.
- المخدرات (مثل الكوكايين، الهيروين، الميثامفيتامين): تسبب تقلبات حادة في النواقل العصبية، تؤدي لاحقًا إلى اكتئاب انسحابي (Post-use depression).
- إدمان الإنترنت والسوشال ميديا: خصوصًا عند المراهقين، ربطت عدة دراسات بينه وبين ارتفاع معدلات القلق والاكتئاب.
- إدمان الإباحية أو الألعاب الإلكترونية: يؤدي إلى انخفاض التحفيز الواقعي، وزيادة العزلة الاجتماعية، وهو ما يساهم في ظهور اكتئاب مزمن أو خفي.
أنواع الاكتئاب
- الاكتئاب الجسيم (Major Depression): يتميز بنوبات حادة تؤثر بشدة على الحياة اليومية.
- الاكتئاب المزمن (Dysthymia): أعراضه أقل شدة لكن أطول زمنًا (قد تمتد لعامين أو أكثر).
- الاكتئاب الموسمي: يحدث غالبًا في فصول الشتاء بسبب قلة التعرض للضوء.
- الاكتئاب الذهاني: يُرافقه أعراض ذهانية مثل الهلاوس أو الأوهام.
- اكتئاب ما بعد الولادة: يصيب النساء بعد الولادة بسبب التغيرات الهرمونية والنفسية.
تأثير الاكتئاب على الحياة
1- الأداء الدراسي أو الوظيفي
- انخفاض التركيز والانتباه: مما يؤدي إلى نسيان المهام أو ارتكاب أخطاء في العمل أو الدراسة.
- تراجع الحافز والإنتاجية: حيث أن حتى المهام البسيطة تبدو مرهقة، مما يجعل الطالب أو الموظف يماطل، يتأخر، أو يغيب تمامًا
- الغياب المتكرر: تشير الدراسات إلى أن الاكتئاب أحد الأسباب الرئيسية للإجازات المرضية الطويلة، خاصة في الوظائف ذات الضغط العالي.
- فقدان العمل أو الفشل الأكاديمي: مع استمرار الأعراض، قد يُفصل الموظف أو يفشل الطالب في اجتياز مواده الدراسية.
2- العلاقات الاجتماعية والعائلية
- الانسحاب الاجتماعي: يفقد المصاب بالاكتئاب الرغبة في اللقاءات أو التواصل، حتى مع أقرب الناس إليه.
- التهيج وسرعة الغضب: يتبدّل المزاج بسهولة، مما يؤدي إلى مشاحنات متكررة مع الشريك أو الأصدقاء أو زملاء العمل.
- تدهور العلاقة الزوجية: كثير من المصابين بالاكتئاب يعجزون عن التعبير العاطفي أو الجنسي، مما يؤدي إلى شعور الشريك بالإهمال أو الرفض.
- ضعف مهارات الأبوة/الأمومة: الاكتئاب المزمن يقلل من قدرة الأهل على دعم أبنائهم نفسيًا أو تربويًا، ما ينعكس سلبًا على نمو الطفل.
3- الصحة الجسدية والمناعة
- اضطرابات النوم: الأرق أو النوم المفرط من الأعراض الشائعة، ما يؤدي إلى إنهاك عام وضعف المناعة.
- مشاكل هضمية مزمنة: مثل القولون العصبي، عسر الهضم، أو فقدان/زيادة الشهية.
- ضعف الجهاز المناعي: تشير دراسات إلى أن الاكتئاب يسبب تغييرات هرمونية تؤدي إلى انخفاض الخلايا المناعية، ما يزيد خطر العدوى.
- زيادة خطر الإصابة بأمراض مزمنة: مثل السكري، أمراض القلب، وارتفاع ضغط الدم، نتيجة الإجهاد النفسي المستمر ونمط الحياة غير الصحي.
4- خطر الانتحار أو إيذاء الذات
- أفكار متكررة عن الموت: يرى المريض الموت كخلاص أو راحة، وتُصبح هذه الأفكار جزءًا يوميًا من حياته.
- التخطيط الفعلي للانتحار: بعض المرضى يبدؤون بالتفكير في الوسائل، أو حتى تجهيزها دون أن يلاحظ من حولهم.
- إيذاء الذات: مثل جرح الجلد أو ضرب النفس أو الامتناع عن الأكل، كوسيلة لتخفيف الألم النفسي الداخلي أو الإحساس بالذنب.
- الانتحار المكتمل: بحسب منظمة الصحة العالمية، يُعد الاكتئاب أحد أهم أسباب الانتحار، والذي يُسجَّل بمعدل يزيد عن 700,000 حالة سنويًا عالميًا.
كيف تتعامل مع الاكتئاب
1- التقييم والتشخيص الدقيق
- زيارة مختص نفسي/طبيب نفسي: لتحديد نوع الاكتئاب (خفيف، متوسط، شديد)، ومدى تأثيره على الوظائف اليومية.
- الفحوصات الطبية: لاستبعاد الأسباب العضوية مثل اضطرابات الغدة الدرقية أو نقص الفيتامينات (B12، D).
2- التدخل العلاجي (حسب الشدة)
أ- العلاج النفسي (Psychotherapy)
- العلاج المعرفي السلوكي (CBT): الأكثر فعالية، يساعد على تعديل أنماط التفكير السلبية.
- العلاج التحليلي (Psychodynamic Therapy): يفيد في الحالات المرتبطة بصدمة أو مشكلات جذرية من الطفولة.
- العلاج السلوكي الجدلي (DBT): مناسب لمن يعانون من اكتئاب مع أفكار انتحارية أو اضطراب الشخصية الحدية.
ب- العلاج الدوائي (Pharmacotherapy)
- أشهر الأدوية: SSRIs مثل (Fluoxetine، Sertraline)، أو SNRIs مثل (Venlafaxine).
- مدة الاستخدام عادة 6–12 شهرًا، وقد تمتد بحسب الحالة.
- التحذير: لا يجب إيقاف الدواء فجأة.
3- الدعم الاجتماعي والتعديلات الحياتية
أ- إعادة بناء الروابط الاجتماعية
- الانخراط مع الأسرة أو مجموعات دعم.
- تقليل العزلة والانقطاع عن الآخرين.
ب- الروتين اليومي والنشاط البدني
- إنشاء جدول يومي ثابت للنوم، الاستيقاظ، والمهام.
- ممارسة الرياضة الهوائية (المشي، السباحة) 3–5 مرات أسبوعيًا؛ ترفع السيروتونين والدوبامين طبيعيًا.
ج- تحسين النظام الغذائي
- تجنب السكريات السريعة والكافيين الزائد.
- تناول أطعمة غنية بعنصر: أوميغا-3 (الأسماك) – مغنيسيوم وب6 (الخضراوات الورقية، الموز، المكسرات)
- التعرض الجيد للشمس.
4- التعامل مع المعتقدات والأفكار السلبية
أ- تدريب العقل
- استخدام دفاتر يومية لتسجيل الأفكار السوداوية وتفنيدها منطقيًا.
- استخدام تقنيات “إعادة التأطير المعرفي” (Cognitive Reframing) لتحويل المعنى السلبي إلى فهم عقلاني.
ب- التأمل واليقظة الذهنية (Mindfulness)
برامج MBSR أو تطبيقات مثل Headspace أو Insight Timer التي تساعد على تهدئة القلق وزيادة التحكم الذاتي.
5- التدخلات المتقدمة (في الحالات الشديدة)
- العلاج بالصدمات الكهربائية (ECT): يستخدم في حالات الاكتئاب الشديد المقاوم للعلاج، فعال جدًا ولكن لا يستخدم إلا في بيئة طبية محكمة.
- التحفيز المغناطيسي العميق (rTMS): خيار جديد نسبيًا، غير جراحي.
الخاتمة
الاكتئاب ليس علامة ضعف، بل مرض حقيقي يستحق التعاطف والعلاج. التوعية والحديث عنه لا يقل أهمية عن تقديم العلاج، ومن الضروري كسر حاجز الصمت حول الاضطرابات النفسية. فكل نفس تُنقذ، هي خطوة نحو مجتمع أكثر وعيًا وإنسانية. (لتفاصيل اكبر حول علاج الاكتئاب)
ماذا يقدم موقع سيكولوجي بالعربي؟
يقدم علاج رسمي لجميع الاضطرابات النفسية او الامراض النفسية بأيدي مستشارين الموقع المختصين