سيكولوجي بالعربي

اكتئاب ما بعد الولادة: الأسباب والأعراض والعلاج

صورة تعبر عن طفل رضيع

اكتئاب ما بعد الولادة (Postpartum Depression) هو أحد الاضطرابات المزاجية الشائعة التي تصيب المرأة بعد إنجاب الطفل، ويُعدّ أكثر شدة واستمرارية من “الكآبة النفاسية” (Baby Blues) التي تظهر لدى ما يقارب 70–80% من الأمهات بصورة خفيفة ومؤقتة.
يظهر اكتئاب ما بعد الولادة عادة خلال الأسابيع الأولى بعد الولادة، إلا أنه قد يتأخر ليظهر خلال الأشهر الستة الأولى، وأحيانًا يمتد تأثيره لسنة كاملة إن لم تتم معالجته.

تتراوح شدة الحالة بين أعراض بسيطة كالتعب والبكاء المتكرر، وبين حالات معقدة قد تصل إلى العجز عن القيام بالمسؤوليات اليومية أو حتى نشوء أفكار انتحارية.

أعراض اكتئاب ما بعد الولادة

1- اضطرابات المزاج والعاطفة

  • شعور عميق بالحزن والكآبة يستمر معظم ساعات اليوم.
  • فقدان الأمل أو نظرة تشاؤمية للمستقبل.
  • تقلبات عاطفية حادة مثل الانتقال من البكاء إلى الغضب بشكل مفاجئ.
  • الانفصال العاطفي عن الرضيع أو عدم الإحساس بالحب تجاهه، ما يسبب شعورًا بالذنب والارتباك.

2- انعدام المتعة (Anhedonia)

  • فقدان الاهتمام بالأنشطة التي كانت ممتعة سابقًا (مثل الهوايات أو لقاء الأصدقاء).
  • صعوبة في الاستمتاع باللحظات الإيجابية حتى مع الطفل.
  • تراجع الرغبة الجنسية بشكل ملحوظ.

3- اضطرابات النوم

  • الأرق: صعوبة في النوم رغم التعب الشديد، أو الاستيقاظ المتكرر بلا سبب.
  • النوم المفرط: ميل للنوم لفترات طويلة كوسيلة للهروب من الضغوط.
  • نوم غير منتظم يزيد من الإرهاق الجسدي والعاطفي.

4- اضطرابات الشهية والوزن

  • فقدان الشهية مع فقدان وزن ملحوظ.
  • الأكل المفرط، خصوصًا الكربوهيدرات والحلويات، ما يؤدي إلى زيادة الوزن.
  • تقلبات الشهية قد تزيد الإحساس بعدم السيطرة.

5- الشعور بالذنب وعدم الكفاءة

  • اعتقاد الأم بأنها “أم سيئة” أو غير قادرة على رعاية طفلها.
  • إحساس بالذنب تجاه عدم قدرتها على الاستمتاع بالأمومة.
  • جلد الذات بشكل متكرر وعدم الرضا عن الأداء اليومي.

6- انخفاض الطاقة وصعوبة التركيز

  • شعور دائم بالتعب والخمول حتى مع قلة المجهود.
  • بطء في الحركة والكلام أحيانًا.
  • صعوبة في التركيز، ضعف الذاكرة، ومشاكل في اتخاذ القرارات البسيطة.

7- أعراض سلوكية واجتماعية

  • الانسحاب الاجتماعي من الأصدقاء والعائلة.
  • تجنب التفاعل مع الطفل أو ترك الرعاية لشخص آخر.
  • فقدان الرغبة في التواصل مع الزوج أو المقربين.

8- أعراض خطيرة تستدعي التدخل الفوري

  • أفكار انتحارية أو رغبة في الموت كوسيلة للهروب من الألم.
  • إيذاء الذات جسديًا.
  • أفكار عدوانية تجاه الطفل (وهي نادرة، لكنها أخطر مراحل الاكتئاب بعد الولادة، وتحتاج تدخلًا طبيًا عاجلًا).

أسباب اكتئاب ما بعد الولادة

1- العوامل البيولوجية

التغيرات الهرمونية المفاجئة:

  • انخفاض حاد في هرموني الإستروجين والبروجسترون بعد الولادة يؤدي إلى اضطراب في كيمياء الدماغ.
  • تغير في هرمون البرولاكتين المسؤول عن إنتاج الحليب، والذي قد يرتبط بتقلبات المزاج.

الناقلات العصبية:

  • خلل في مستويات السيروتونين (مرتبط بالتحكم بالمزاج).
  • اضطراب في الدوبامين (مرتبط بالمتعة والتحفيز).

التغيرات الجسدية بعد الولادة:

  • فقدان الدم والإرهاق البدني قد يزيد من هشاشة الحالة النفسية.
  • آلام الولادة القيصرية أو الطبيعية التي قد تُطيل فترة التعافي.

الحرمان من النوم:

  • الأرق المتكرر بسبب بكاء الطفل أو الرضاعة الليلية يؤثر سلبًا على الجهاز العصبي.
  • تقلبات نوم الطفل تؤثر سلبًا على نفسية ومزاج الأم

2- العوامل النفسية

  • التاريخ النفسي السابق: النساء اللواتي عانين من اكتئاب أو قلق قبل الحمل أو خلاله أكثر عرضة للإصابة.
  • التصور الذاتي السلبي: ضعف الثقة بالنفس والإحساس بعدم الكفاءة كأم.
  • خوف من المسؤولية: خوف الأم من مسؤولية جديدة وعدم القدرة على تلبية احتياجات الرضيع.
  • التجارب السابقة الصادمة: تعرض المرأة في طفولتها أو شبابها لصدمات نفسية أو إساءة.

3- العوامل الاجتماعية والبيئية

  • غياب الدعم الأسري والزوجي: افتقار الأم للمساندة العاطفية أو المساعدة العملية في رعاية الطفل.
  • الخلافات الزوجية: التوتر في العلاقة مع الشريك يزيد الضغط النفسي.
  • الضغوط الاقتصادية: صعوبة تغطية نفقات الطفل أو الأعباء المالية للأسرة.
  • العزلة الاجتماعية: قلة التواصل مع الأصدقاء أو عدم وجود شبكة دعم اجتماعي.

4- عوامل الخطر الإضافية

  • الحمل غير المخطط له: شعور الأم بعدم الجاهزية نفسياً أو مادياً لاستقبال طفل جديد.
  • مضاعفات الحمل أو الولادة: نزيف، ولادة قيصرية طارئة، أو ولادة مبكرة.
  • المشكلات الصحية للرضيع: ولادة طفل ضعيف أو مريض يزيد العبء النفسي والقلق على الأم.
  • الضغوط الأسرية الإضافية: وجود أطفال آخرين بحاجة للرعاية، ما يضاعف الضغط الجسدي والعاطفي.
  • عوامل ثقافية ومجتمعية: في بعض المجتمعات، قد تُواجه الأم ضغطًا اجتماعيًا لتكون “مثالية” مما يزيد شعورها بالفشل عند مواجهة صعوبات.

طرق علاج اكتئاب ما بعد الولادة

1- العوامل البيولوجية

أ- العلاج السلوكي المعرفي (CBT):

  • يساعد على إعادة هيكلة الأفكار السلبية المرتبطة بالأمومة.
  • يعلّم الأم استراتيجيات للتعامل مع مشاعر الذنب أو الفشل.

ب- العلاج التفاعلي (Interpersonal Therapy – IPT):

  • يركز على تحسين العلاقات الزوجية والأسرية.
  • يعمل على تقليل العزلة الاجتماعية وتعزيز التواصل.

ج- العلاج السلوكي الجدلي (DBT):

  • يفيد في الحالات المصحوبة بانفعالات شديدة أو أفكار انتحارية.

2- العلاج الدوائي

  • مضادات الاكتئاب (SSRIs مثل سيرترالين، فلوكستين): تُعتبر خط العلاج الأول، مع متابعة دقيقة لتأثيرها أثناء الرضاعة.
  • مضادات القلق (عند الضرورة): قد تُستخدم لفترة قصيرة في حالات القلق الشديد.
  • بريكسانون (Brexanolone): أول دواء مُعتمد خصيصًا لاكتئاب ما بعد الولادة (يُعطى عبر التسريب الوريدي).
  • زولانوكسين (Zuranolone): دواء جديد (حبة فموية) أُقرّ مؤخرًا في بعض الدول لعلاج اكتئاب ما بعد الولادة.
  • المكملات الغذائية: في بعض الحالات، يُوصى بمكملات أوميغا-3 أو فيتامين D لدعم الصحة النفسية.

3- الدعم الأسري والاجتماعي

  • مشاركة الزوج: المساهمة في رعاية الطفل، توفير الدعم العاطفي، والتقليل من ضغط المسؤوليات.
  • التثقيف الأسري: تثقيف الأسرة حول طبيعة الاضطراب لتجنب إصدار أحكام قاسية على الأم.
  • مجموعات الدعم: الانضمام إلى مجموعات عبر الإنترنت أو لقاءات واقعية لأمهات يمررن بالتجربة نفسها.
  • المساعدة العملية: طلب الدعم من الأقارب أو الأصدقاء في الأعمال المنزلية أو رعاية الطفل.

4- التغييرات الحياتية

  • النوم المنتظم: تنظيم أوقات النوم قدر الإمكان، مع أخذ قيلولات قصيرة لتعويض الإرهاق الليلي.
  • الرياضة: المشي أو تمارين الاسترخاء لرفع مستوى السيروتونين طبيعيًا.
  • التغذية الصحية: تناول وجبات متوازنة غنية بالبروتينات، الألياف، الأوميغا-3، والفيتامينات.
  • التعرض للشمس: يساعد في رفع فيتامين D وتحسين المزاج.
  • تخصيص وقت شخصي: قضاء بعض الوقت بعيدًا عن المهام اليومية للراحة أو ممارسة الهوايات.

الخاتمة

إن اكتئاب ما بعد الولادة ليس مجرد حالة عابرة من الحزن أو التعب، بل هو اضطراب نفسي معقّد قد يؤثر على صحة الأم الجسدية والعاطفية، وعلى نمو الطفل وعلاقات الأسرة بأكملها. إن إدراك الأعراض المبكرة وطلب المساعدة الطبية والنفسية في الوقت المناسب يمثلان حجر الأساس للتعافي والوقاية من المضاعفات. كما أن الدعم الأسري والاجتماعي يلعب دورًا محوريًا في تعزيز ثقة الأم بنفسها وتخفيف الضغوط المحيطة بها. إن الاستثمار في صحة الأم النفسية بعد الولادة ليس رفاهية، بل ضرورة لحماية الأمومة كقيمة إنسانية ولضمان مستقبل صحي للأجيال القادمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *