سيكولوجي بالعربي

تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الصحة النفسية

صورة تعبر عن وسائل التواصل الاجتماعي

أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي خلال العقدين الأخيرين بيئة رئيسية لتفاعل الأفراد والمجتمعات. فقد تجاوز عدد مستخدميها عالميًا عام 2025 حاجز 5.2 مليار مستخدم، أي ما يقارب ثلثي سكان العالم. هذه المنصات ليست مجرد أدوات ترفيه، بل تشكل فضاءً معقدًا يعيد صياغة العلاقات الاجتماعية، والأنماط المعرفية، والصحة النفسية. لكن، ومع تزايد الاعتماد عليها، برزت أسئلة جوهرية:

  • كيف يؤثر الاستخدام المفرط على القلق والاكتئاب؟
  • ما العلاقة بين المقارنة الاجتماعية الرقمية وتقدير الذات؟
  • هل يمكن أن تكون هذه المنصات أداة علاجية، أم أنها تزيد الاضطراب النفسي؟

الأثر الإيجابي لوسائل التواصل الاجتماعي على الصحة النفسية

1- الدعم النفسي والاجتماعي

  • المجموعات الافتراضية كشبكات دعم: منصات مثل فيسبوك أو واتساب توفر بيئات آمنة يتبادل فيها الأفراد تجاربهم مع القلق أو الاكتئاب.
  • تبادل الخبرات: أشخاص مرّوا بتجارب علاجية يشاركون الآخرين استراتيجيات المواجهة، مثل تمارين التنفس أو آليات إدارة النوبات.
  • الدليل العلمي: دراسة صادرة عن Cyberpsychology, Behavior, and Social Networking (2021) أظهرت أن الانضمام إلى مجموعات دعم نفسي عبر الإنترنت ارتبط بانخفاض مستويات العزلة بنسبة 22%.
  • البعد الإقليمي: في العالم العربي، مع محدودية الوصول إلى خدمات الصحة النفسية (بسبب الوصمة أو الكلفة)، أصبح الدعم الافتراضي بديلًا واقعيًا لعدد كبير من الشباب.

2- الوصول إلى المعلومات وزيادة الوعي

  • تثقيف صحي عام: صفحات ومبادرات مثل “Mental Health Awareness” أو “سيكولوجي بالعربي” تسهم في نشر معلومات موثوقة حول أعراض الاكتئاب، اضطرابات القلق، وأهمية العلاج.
  • تقليل الوصمة الاجتماعية: عندما يرى الأفراد شخصيات عامة أو مؤثرين يتحدثون عن معاناتهم مع الاكتئاب أو العلاج النفسي، يساهم ذلك في كسر حاجز العيب والعار المرتبط بالمرض النفسي.
  • الوصول الفوري للمصادر: كثير من المستخدمين يجدون عبر تويتر أو لينكدإن روابط لمقالات وأبحاث علمية لم تكن متاحة بسهولة من قبل.
  • الدليل العلمي: تقرير WHO أكد أن حملات التوعية عبر السوشال ميديا زادت معدلات التوجه لطلب العلاج النفسي في بعض الدول النامية بنسبة 15%.

3- التعبير عن الذات والتفريغ النفسي

  • المساحة الإبداعية: منصات مثل إنستغرام ويوتيوب وتيك توك تتيح للفرد التعبير عن ذاته عبر الفن، الكتابة، أو حتى التدوين الشخصي. هذا التعبير يسهم في تخفيف التوتر والضغط الداخلي.
  • اليوميات الرقمية: مشاركة الأفكار اليومية، حتى بشكل مجهول، تعزز عملية “التنفيس النفسي” (Catharsis) التي تخفف من شدة المشاعر المكبوتة.
  • تعزيز الهوية الشخصية: تساعد المنصات على اختبار هويات متعددة وصياغة صورة عن الذات، مما قد يدعم تكوين الثقة بالنفس.
  • المرونة العاطفية: عندما يتلقى الفرد تفاعلًا إيجابيًا على محتواه مثل دعم أو تشجيع، يتحسن مزاجه وقدرته على مواجهة الضغوط.
  • الدليل العلمي: دراسة في Journal of Adolescence (2019) وجدت أن المراهقين الذين يستخدمون منصات رقمية للتعبير الإبداعي (مثل التدوين أو إنتاج الفيديو) أظهروا مستويات أعلى من المرونة النفسية بنسبة 18% مقارنةً بغيرهم.

4- فرص جديدة للتدخل النفسي الرقمي

  • العلاج عبر الإنترنت (E-therapy): بعض المنصات بدأت تستخدم وسائل التواصل كقنوات للعلاج أو الاستشارات النفسية، وهو ما يفتح المجال لتقليل فجوة الوصول إلى العلاج في الدول النامية.
  • الذكاء الاصطناعي في الصحة النفسية: روبوتات المحادثة (chatbots) مثل Woebot أو Wysa تستخدم في تقديم دعم نفسي فوري للمستخدمين عبر المنصات، وتظهر نتائج إيجابية في تخفيف أعراض القلق الخفيف.

الأثر السلبي على الصحة النفسية

1- اضطرابات القلق والاكتئاب

الآلية النفسية:

  • المقارنة الاجتماعية المستمرة تولّد إحساسًا بالنقص والدونية.
  • التعرض للأخبار السلبية بشكل متكرر يرفع مستويات الكورتيزول (هرمون التوتر).
  • الخوف من فوات الأحداث (FOMO) يخلق قلقًا دائمًا.

الأدلة العلمية:

  • دراسة Journal of Social and Clinical Psychology: تقليل الاستخدام لأقل من 30 دقيقة يوميًا خفّض أعراض الاكتئاب بنسبة 33%.
  • تقرير WHO (2022) في الشرق الأوسط: 31% من الشباب الذين يستخدمون المنصات أكثر من 4 ساعات يوميًا لديهم أعراض قلق مستمر، مقابل 14% فقط لدى من يستخدمونها أقل من ساعتين.

2- تشوه صورة الجسد واضطرابات الأكل

الآلية النفسية:

  • منصات مثل إنستغرام وتيك توك تعزز “المعايير الجمالية غير الواقعية”، حيث تُعرض صور مُعدّلة بالفلترات.
  • هذا يؤدي إلى ظاهرة Body Dysmorphic Disorder (اضطراب التشوه الجسدي) وزيادة السلوكيات الغذائية غير الصحية.

الأدلة العلمية:

  • دراسة Fardouly et al., 2020: متابعة المؤثرين الذين يروّجون للجمال المثالي ارتبطت بانخفاض الرضا عن الجسد بنسبة 27%.
  • دراسة أوروبية (2021): الفتيات اللواتي يقضين أكثر من 3 ساعات يوميًا على إنستغرام لديهن خطر مضاعف لتطوير اضطرابات الأكل.

3- الإدمان الرقمي

الآلية النفسية والعصبية:

  • المنصات مصممة وفق ما يسمى Persuasive Technology، أي أن الخوارزميات تخلق حلقة إدمانية قائمة على المكافأة المتقطعة (Variable Reward System)، مثل القمار.
  • الدماغ يتعرض لتفريغ متكرر للدوبامين، ما يجعل الانفصال عن الهاتف صعبًا ويؤدي إلى أعراض شبيهة بانسحاب الإدمان.

الأدلة العلمية:

  • تقرير We Are Social (2024): متوسط الاستخدام اليومي للشباب في الشرق الأوسط 4.8 ساعات مقابل 3.9 ساعات عالميًا.
  • دراسة كورية (2022): طلاب الجامعات الذين يصنفون كـ”مدمنين على السوشال ميديا” لديهم معدلات أرق أعلى بـ 60% وضعف في الأداء الأكاديمي.

4- التنمر الإلكتروني

الآلية النفسية:

  • الفضاء الافتراضي يمنح “إخفاء الهوية”، مما يسهل السلوك العدواني.
  • الضحية غالبًا لا يملك وسائل حماية أو ردع كما في الحياة الواقعية، ما يضاعف الأثر النفسي.

الأدلة العلمية:

  • تقرير UNICEF (2023): 20% من المراهقين العرب تعرضوا لشكل من أشكال التنمر الإلكتروني.
  • دراسة أميركية (2019): ضحايا التنمر الإلكتروني لديهم خطر مضاعف للإصابة بالاكتئاب ومحاولات الانتحار.
  • في الخليج، التنمر يرتبط بالضغط على الفتيات خاصة فيما يتعلق بالمظهر أو السمعة، وهو ما يزيد من نسب القلق الاجتماعي واضطرابات الهوية.

استراتيجيات المواجهة والتقليل من المخاطر

1- إدارة الوقت الرقمي (Digital Time Management):

  • وضع حدود يومية صارمة (≤ ساعتين يوميًا خارج ساعات العمل أو الدراسة).
  • استخدام تطبيقات الرقابة الذاتية (مثل Digital Wellbeing أو Screen Time) لمراقبة الاستهلاك الفعلي.
  • تطبيق قاعدة “30-30-30”: كل 30 دقيقة من التصفح تُقابل بـ 30 دقيقة من نشاط بدني أو معرفي، مع تخصيص 30 دقيقة للتأمل أو الاسترخاء.
  • تقليل الاستخدام قبل النوم بساعتين يقلل من اضطرابات النوم المرتبطة بالضوء الأزرق (blue light) الذي يثبط الميلاتونين.

2- تنقية بيئة المتابعة (Curating Online Environment):

  • متابعة حسابات تقدم محتوى معرفي، إبداعي، أو داعم نفسي بدلًا من حسابات تُركز على المظاهر.
  • إلغاء المتابعة أو كتم (Mute) الحسابات التي تُثير المقارنة السلبية أو الإحباط.
  • بناء “غذاء رقمي صحي” يشبه الغذاء الجسدي: مزيج متوازن من محتوى تثقيفي، إبداعي، وترفيهي.

3- تعزيز التفاعل الواقعي (Enhancing Offline Interactions):

  • الانخراط في نشاطات جماعية مثل الرياضة، التطوع، أو حضور حلقات نقاشية.
  • تخصيص وقت عائلي خالٍ من الأجهزة الإلكترونية (Digital-Free Family Time).
  • اعتماد “يوم بلا إنترنت” أسبوعيًا لتجديد الروابط الواقعية.

4- التدخل العلاجي (Clinical & Therapeutic Intervention):

  • العلاج السلوكي المعرفي (CBT): يُستخدم لتحديد الأفكار المشوهة المرتبطة بالمقارنة الاجتماعية، ولتدريب الفرد على بناء عادات رقمية صحية.
  • العلاج السلوكي الجدلي (DBT): فعّال في حالات التنمر الإلكتروني واضطرابات الأكل المرتبطة بالمنصات.
  • إدخال برامج علاج جماعي (Group Therapy) للشباب لزيادة الدعم المتبادل.

5- التدخل المؤسسي والمجتمعي (Institutional & Societal Intervention):

  • دمج التربية الرقمية (Digital Literacy) ضمن المناهج الدراسية، بما يشمل: إدارة الخصوصية، مقاومة التنمر الإلكتروني، وأهمية الصحة النفسية الرقمية.
  • إطلاق حملات توعوية من وزارات الصحة والإعلام في العالم العربي لمواجهة الوصمة تجاه العلاج النفسي وللتقليل من مخاطر الإدمان الرقمي.
  • توفير خطوط دعم نفسي إلكتروني (Hotlines & E-therapy) مجهّزة خصيصًا للشباب المتأثرين باستخدام وسائل التواصل.

6- الابتكار التقني (Technological Solutions):

  • تطوير خوارزميات محلية تراعي الصحة النفسية (مثل تقليل التوصية بالمحتوى المثير للقلق أو المقارنة).
  • إدخال “مؤشرات استهلاك صحية” داخل المنصات (مثل إشعارات تلقائية بعد تخطي ساعتين).

الخاتمة

وسائل التواصل الاجتماعي لم تعد مجرد أداة ترفيهية بل تحولت إلى بيئة نفسية اجتماعية متكاملة. تأثيرها مزدوج: فهي تدعم الصحة النفسية عبر تمكين التواصل والدعم، لكنها قد تكون أيضًا مصدرًا للاضطرابات إذا تجاوز الاستخدام حدود الاعتدال.

التحدي الحقيقي في العالم العربي يكمن في ضعف الوعي المجتمعي، غياب التشريعات المنظمة، وارتفاع معدلات البطالة والفراغ بين الشباب، مما يجعلهم أكثر عرضة للاستخدام القهري. لكن الحل لا يكمن في الانقطاع التام، بل في التوازن الواعي، وتطوير سياسات تعليمية وصحية قادرة على دمج الصحة النفسية في صلب التحول الرقمي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *