الذهان: حين يختلط الواقع بالأوهام

الذهان هو اضطراب إدراكي معقد يتميز بانفصال الفرد عن الواقع، بدرجات متفاوتة، قد تصل أحيانًا إلى فقدان شبه كامل للقدرة على التمييز بين ما هو واقعي وما هو خيال. في هذه الحالة، يعيش المريض تجارب حسية أو فكرية لا وجود لها في العالم الخارجي، مثل سماع أصوات وهمية أو الاعتقاد بأفكار غير منطقية، لكنه يتعامل معها وكأنها حقيقة مطلقة.

قد يظهر الذهان بشكل مؤقت وعابر نتيجة ضغوط نفسية هائلة أو ظروف حياتية قاسية، وقد يكون جزءًا من اضطراب نفسي مزمن مثل الفصام (Schizophrenia) أو الاضطراب الوجداني ثنائي القطب.

أعراض الذهان

1- الهلاوس (Hallucinations)

الهلاوس هي تجارب حسية بدون منبه خارجي حقيقي، وتُعد من أبرز سمات الذهان.

• الهلاوس السمعية: الأكثر شيوعًا، حيث يسمع المريض أصواتًا تأمره أو تنتقده أو تحاوره. أحيانًا يسمع أكثر من صوت في وقت واحد.
• الهلاوس البصرية: رؤية أشخاص، أشكال، ألوان أو ومضات ضوئية غير موجودة.
• الهلاوس اللمسية: شعور بلمس أو حشرات تزحف على الجلد.
• الهلاوس الشمية: شم روائح غريبة أو مزعجة دون مصدر واقعي.
• الهلاوس الذوقية: الإحساس بطعم معدني أو طعم سيئ في الفم بدون سبب.

2- الضلالات (Delusions)

الضلالات هي معتقدات ثابتة وغير منطقية، لا يمكن زعزعتها حتى بالأدلة. ومن أبرز أنواعها:

• الضلالات الاضطهادية (Persecutory delusions): اعتقاد بأن الآخرين يراقبونه أو يتآمرون عليه.
• الضلالات العظمية (Grandiose delusions): الشعور بامتلاك قدرات خارقة أو مكانة خاصة (نبي، قائد عالمي…).
• الضلالات المرجعية (Referential delusions): الاعتقاد أن الرسائل التلفزيونية أو لوحات الإعلانات موجهة له شخصيًا.
• الضلالات الجسدية (Somatic delusions): أفكار خاطئة عن الجسم مثل “أعضائي تتحلل” أو “هناك جهاز مزروع داخليًا”.
• الضلالات الغيرة المرضية (Jealous delusions): الاعتقاد غير المنطقي بخيانة الشريك.

3- التفكير غير المنظم (Disorganized Thinking)

يظهر هذا العرض بشكل واضح في الكلام والتواصل:

• تفكك الأفكار (Loose associations): الانتقال من موضوع لآخر دون ترابط منطقي.
• كلام غير مفهوم (Word salad): استخدام كلمات مبعثرة بلا معنى.
• توقف الفكر (Thought blocking): فجأة يتوقف المريض عن الكلام وكأن الفكرة انقطعت.
• صعوبة التركيز: لا يستطيع متابعة محادثة أو إنهاء مهمة بسيطة.

4- السلوك غير الطبيعي (Abnormal Behavior)

يتراوح بين نشاط مفرط غير موجه إلى سلوكيات غريبة:

• الحركات الغريبة أو المتكررة: مثل هز الجسم أو حركات اليد العشوائية.
• التصرفات غير المناسبة للموقف: الضحك في مواقف حزينة أو الغضب المفاجئ.
• الجمود التام (Catatonia): صمت، عدم استجابة، أو اتخاذ وضعيات جسدية ثابتة لفترات طويلة.
• اندفاعية وعدوانية أحيانًا: نتيجة استجابة لهلاوس أو ضلالات.

5- الأعراض السلبية (Negative Symptoms)

وهي أعراض مرتبطة بفقدان وظائف طبيعية أساسية:

• الانسحاب الاجتماعي: تجنب التفاعل مع الآخرين والعزلة.
• فقدان الحافز (Avolition): صعوبة البدء أو الاستمرار في المهام اليومية.
• انخفاض التعبير العاطفي (Blunted affect): وجه جامد، نبرة صوت واحدة، قلة لغة الجسد.
• فقر الكلام (Alogia): الكلام يصبح مقتضبًا جدًا.
• انخفاض المتعة (Anhedonia): فقدان القدرة على الاستمتاع بالنشاطات المعتادة.

أسباب الذهان

1- العوامل البيولوجية

اضطراب النواقل العصبية

• خلل في الدوبامين: زيادة نشاطه في بعض المسارات الدماغية يرتبط مباشرة بظهور الهلاوس والضلالات.
• دور السيروتونين والغلوتامات: لهما علاقة بالانتباه، المزاج، والإدراك.

تغيرات بنيوية في الدماغ

• انكماش في مناطق مثل القشرة الجبهية (Prefrontal Cortex) المسؤولة عن اتخاذ القرار.
• خلل في الحُصين (Hippocampus) المسؤول عن الذاكرة.
• اضطرابات في اللوزة الدماغية (Amygdala) المسؤولة عن الانفعالات.

العامل الوراثي

• وجود تاريخ عائلي يزيد من احتمالية الإصابة.
• التوائم المتماثلة لديهم معدلات إصابة أعلى من غير المتماثلة.

اضطرابات النمو العصبي

• مضاعفات الحمل (نقص الأكسجين عند الولادة، عدوى فيروسية أثناء الحمل).
• نقص بعض الفيتامينات الأساسية مثل B12 وD قد يزيد من الاستعداد البيولوجي للذهان.

2- العوامل النفسية

صدمات الطفولة المبكرة

• التعرض للإهمال أو الإساءة الجسدية أو الجنسية.
• فقدان أحد الوالدين في مرحلة مبكرة.

التوتر المزمن

• الإجهاد المستمر في الدراسة أو العمل أو العلاقات.
• أحداث حياتية صادمة مثل الطلاق، فقدان الوظيفة، أو وفاة قريب.

الاضطرابات النفسية المرافقة

• القلق الحاد والاكتئاب الشديد قد يكونان بيئة خصبة لتطور الذهان.
• الذكريات الصادمة الشديدة قد تظهر أحيانًا على شكل هلاوس أو إعادة معايشة للماضي بطريقة قريبة من الذهان.

3- العوامل البيئية والاجتماعية

• العزلة الاجتماعية: قلة الدعم الاجتماعي تزيد من احتمالية الانهيار النفسي.
• الفقر والحرمان الاقتصادي: يزيد من التعرض للضغوط، سوء التغذية، وانعدام الرعاية الصحية.
• البيئة الأسرية المضطربة: الصراعات المستمرة أو العنف المنزلي.
• الهجرة والشعور بالاغتراب: اختلاف الثقافة أو التمييز الاجتماعي قد يعزز الشعور بالانعزال ويحفّز ظهور الأعراض.
• المدن الكبيرة مقابل المناطق الريفية: بعض الدراسات وجدت أن العيش في المدن الكبرى يزيد من معدلات الذهان بسبب الضغط النفسي المستمر والتعرض لمحفزات حسية مفرطة.

3- العوامل البيئية والاجتماعية

تعاطي المخدرات والمنشطات

• الأمفيتامينات، الكوكايين: قد تسبّب ذهانًا حادًا يشبه الفصام.
• الحشيش (بنسب THC عالية): يزيد من احتمالية الذهان، خاصة عند من لديهم استعداد وراثي.
• الكحول: الإفراط أو الانسحاب المفاجئ قد يؤدي إلى “ذهان الكحول”.

الأمراض العضوية

• أورام الدماغ، الصرع، التصلب المتعدد.
• اضطرابات الغدة الدرقية أو الكظرية.

الآثار الجانبية لبعض الأدوية

• الستيرويدات (Corticosteroids).
• بعض أدوية باركنسون (مثل ليفودوبا).
• الأدوية المنشطة للجهاز العصبي.

أنواع الذهان

1- الذهان الفصامي (Schizophrenic Psychosis)

يُعد الشكل الأكثر شيوعًا وارتباطًا بمرض الفصام (Schizophrenia).

• يتميز بوجود هلاوس سمعية (مثل سماع أصوات تعلق على أفعال المريض) وضلالات متجذرة مثل أفكار المراقبة أو السيطرة.
• يظهر عادة في أواخر المراهقة أو بداية العشرينات.
• يترافق مع الأعراض السلبية: الانسحاب الاجتماعي، ضعف الإرادة، وانخفاض التعبير العاطفي.

2- الذهان الوجداني (Affective Psychosis)

مرتبط بشكل مباشر باضطرابات المزاج مثل:

• الاضطراب ثنائي القطب: حيث يظهر الذهان في نوبات الهوس (ضلالات العظمة أو قدرات خارقة) أو في نوبات الاكتئاب (أفكار انتحارية أو ضلالات ذنب).
• الاكتئاب الذهاني: حيث تترافق مشاعر الحزن العميق مع هلاوس أو ضلالات سوداوية (مثل اعتقاد الشخص أنه ميّت أو بلا قيمة).
• غالبًا يختفي الذهان مع استقرار المزاج.

3- الذهان الناتج عن مواد (Substance-Induced Psychosis)

يحدث بسبب تعاطي المخدرات أو الكحول أو حتى بعض الأدوية، ومن الأكثر ارتباطًا:

• الأمفيتامينات والكوكايين: تثير ضلالات اضطهادية وهلاوس سمعية.
• الحشيش (بجرعات عالية أو استخدام مبكر): يزيد خطر الذهان، خاصة لدى ذوي الاستعداد الوراثي.
• الكحول: قد يؤدي إلى هلاوس بصرية واضطرابات إدراك خاصة عند الانسحاب (Alcoholic Hallucinosis).

4- الذهان الحاد العابر (Brief Psychotic Disorder)

• يظهر فجأة نتيجة ضغط نفسي شديد (مثل فقدان شخص عزيز، حوادث كبرى، صدمات عنيفة).
• يتميز بأعراض ذهانية حادة مثل الهلاوس أو الضلالات، لكنها تستمر أيامًا إلى أسابيع فقط.
• غالبًا ما يشفى المريض تمامًا بعد زوال الضغوط، مع احتمال عودة الأعراض إذا تكررت

5- الذهان العضوي (Organic Psychosis)

يحدث نتيجة اضطرابات جسدية أو عصبية مثل:

• أورام الدماغ.
• الصرع (خصوصًا الفص الصدغي).
• أمراض التنكس العصبي (مثل الزهايمر أو باركنسون).
• التهابات الجهاز العصبي (مثل التهاب الدماغ).

6- الذهان ما بعد الولادة (Postpartum Psychosis)

• يظهر عند بعض النساء بعد الولادة بفترة قصيرة.
• يتميز بهلاوس وضلالات مرتبطة بالأمومة (مثل اعتقاد أن الطفل مريض أو مهدد).
• يُعد حالة طارئة بسبب خطورة إيذاء النفس أو الرضيع.

علاج الذهان

1- العلاج الدوائي (Pharmacological Treatment)

الأدوية هي الأساس في السيطرة على الأعراض الذهانية، وتُستخدم وفقًا لنوع الذهان وشدته:

مضادات الذهان التقليدية

• مثل: هالوبيريدول (Haloperidol)، كلوربرومازين (Chlorpromazine).
• فعّالة في السيطرة على الهلاوس والضلالات.
• سلبياتها: قد تسبب أعراضًا جانبية حركية (مثل الرعشة، التشنجات العضلية، ما يُعرف بالأعراض خارج الهرمية – Extrapyramidal Symptoms).

مضادات الذهان الحديثة

• مثل: ريسبيريدون (Risperidone)، أولانزابين (Olanzapine)، كويتيابين (Quetiapine)، كلوزابين (Clozapine) (في الحالات المقاومة للعلاج).
• ميزتها: أقل تسببًا في الأعراض الحركية، وتُحسّن أيضًا بعض الأعراض السلبية (مثل الانسحاب الاجتماعي).
• سلبياتها: قد تؤدي إلى زيادة الوزن، اضطرابات في التمثيل الغذائي، وارتفاع نسبة السكر والكوليسترول.

الأدوية المساعدة

• مضادات الاكتئاب: تُستخدم إذا كان الذهان جزءًا من اضطراب اكتئابي ذهاني.
• مثبتات المزاج (مثل ليثيوم، فالبروات الصوديوم): تُستخدم مع الذهان الوجداني المرتبط باضطراب ثنائي القطب.
• الأدوية المهدئة (مثل البنزوديازيبينات): في حالات القلق أو الأرق الشديد المصاحب للذهان.

2- العلاج النفسي والاجتماعي (Psychosocial Interventions)

إلى جانب الدواء، يحتاج المريض إلى إعادة بناء مهاراته الحياتية والاجتماعية:

العلاج السلوكي المعرفي (CBT)

• يساعد المريض على فهم الهلاوس والضلالات والتعامل معها بواقعية.
• مثال: تدريب المريض على إدراك أن “الأصوات” ليست حقيقية، وتعلم استراتيجيات لصرف الانتباه عنها.

العلاج الأسري

• يهدف إلى تثقيف الأسرة حول طبيعة المرض وكيفية التعامل مع المريض.
• يقلل من التوتر والصراعات داخل الأسرة مما يحسن استقرار الحالة.

التأهيل النفسي والاجتماعي

• برامج تدريبية لإعادة المريض تدريجيًا إلى العمل، الدراسة، أو النشاطات اليومية.
• تشمل مهارات التواصل، إدارة الضغوط، والاعتماد على النفس.

3- الاستشفاء (Hospitalization)

يُعد ضروريًا في الحالات التالية:

• عندما يشكل المريض خطرًا على نفسه (مثل الميل للانتحار) أو على الآخرين (سلوك عدواني نتيجة الضلالات).
• في حالة العجز الوظيفي الشديد (عدم القدرة على الاعتناء بالنفس أو العيش باستقلالية).
• إذا كانت الأعراض الذهانية حادة جدًا ولا يمكن السيطرة عليها في بيئة المنزل.

4- العلاجات المستقبلية والبحثية

• عالتحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة (TMS): تقنية غير جراحية أظهرت نتائج مبشرة في تقليل الهلاوس السمعية.
• العلاج الجيني والبيولوجي: أبحاث جارية لفهم دور الجينات والنواقل العصبية بشكل أدق لعلاج جذور الاضطراب.
• الذكاء الاصطناعي: بدأ يُستخدم في التنبؤ بانتكاسات الذهان عبر تحليل أنماط الكلام والسلوك.

التدخل المبكر يزيد فرص السيطرة على الأعراض ويحسن جودة الحياة.

الخاتمة

الذهان ليس مجرد اضطراب نفسي عابر، بل هو حالة معقدة تمس جوهر إدراك الفرد للواقع، وتؤثر بعمق على حياته وعلاقاته الاجتماعية. ورغم خطورته، فإن العلم والطب قد أتاحا اليوم إمكانيات كبيرة للتعامل معه عبر الأدوية الحديثة، والعلاج النفسي، والدعم الأسري والاجتماعي.

إن الكشف المبكر، والالتزام بالعلاج، وتوفير بيئة آمنة ومتفهِّمة للمريض، تشكل عوامل حاسمة في تحسين جودة حياته وتقليل فرص الانتكاس. ومن المهم أن ندرك أن مريض الذهان ليس “خطرًا” بحد ذاته، بل إن معاناته انعكاس لخلل عصبي ونفسي يحتاج إلى رعاية وعلم وتعاطف.

ماذا يقدم موقع سيكولوجي بالعربي؟

يقدم علاج رسمي لجميع الاضطرابات النفسية او الامراض النفسية بأيدي مستشارين الموقع المختصين