سيكولوجي بالعربي

الاكتئاب الموسمي: الاضطراب المرتبط بالفصول

صورة تعبر عن الاكتئاب الموسمي

الاكتئاب الموسمي (Seasonal Affective Disorder – SAD) هو اضطراب نفسي دوري ينتمي إلى فئة الاضطرابات الاكتئابية الكبرى، يتميز بارتباطه الوثيق بتغير الفصول، حيث يبدأ غالبًا في الخريف ويزداد شدة خلال الشتاء، ثم يخف تدريجيًا مع بداية الربيع والصيف. وعلى الرغم من أن النمط الشتوي هو الأكثر شيوعًا، إلا أن هناك حالات نادرة يظهر فيها الاكتئاب الموسمي في فصلي الربيع أو الصيف.

هذا النوع من الاكتئاب لا يُعتبر مجرد “حزن شتوي” عابر، بل هو حالة طبية حقيقية تؤثر بشكل ملحوظ على المزاج، الطاقة، السلوك، والقدرة على أداء الأنشطة اليومية. يتميز بظهور متكرر للأعراض على مدى عامين أو أكثر بنفس التوقيت الموسمي، مما يجعله مختلفًا عن الاكتئاب التقليدي.

تشير الأبحاث إلى أن السبب الجوهري يكمن في نقص التعرض لضوء الشمس، مما يؤدي إلى اضطراب في الساعة البيولوجية (Circadian Rhythm)، وانخفاض مستويات السيروتونين (الناقل العصبي المرتبط بالمزاج)، وزيادة إفراز الميلاتونين (الهرمون المسؤول عن النوم). هذه التغيرات البيوكيميائية مجتمعة تؤثر في المزاج والدافعية والنوم.

أعراض الاكتئاب الموسمي

1- الأعراض النفسية والسلوكية العامة

  • اضطرابات المزاج: شعور دائم بالحزن، الإحباط، انعدام المتعة (Anhedonia)، وفقدان الأمل.
  • الانسحاب الاجتماعي: الميل إلى العزلة وتجنب الأنشطة الاجتماعية أو اللقاءات.
  • فقدان الاهتمام بالأنشطة المعتادة: التوقف عن ممارسة الهوايات أو الأشياء التي كانت ممتعة سابقًا.
  • انخفاض الدافعية: صعوبة في بدء أو إكمال المهام اليومية.
  • ضعف التركيز والذاكرة: بطء في التفكير وصعوبة في اتخاذ القرارات.
  • أفكار سلبية متكررة: في الحالات الشديدة قد تصل إلى أفكار انتحارية.

2- الأعراض الجسدية

  • الخمول الجسدي: شعور بالثقل في الأطراف (غالبًا يُوصف كإحساس بالثقل في اليدين أو القدمين).
  • تغيرات النوم: تختلف حسب النمط (انظر أدناه).
  • تغيرات الشهية: اشتهاء أنواع معينة من الطعام (خاصة الكربوهيدرات والسكريات).
  • تغير الوزن: عادة زيادة الوزن في النمط الشتوي ونقصانه في النمط الصيفي.
  • آلام جسدية غير مبررة: مثل الصداع المزمن، آلام العضلات، أو مشكلات هضمية.

3- أنماط الأعراض حسب الفصول

أ- الاكتئاب الموسمي الشتوي (الأكثر شيوعًا):

  • النوم: ميل للنوم لفترات طويلة (Hypersomnia).
  • الطاقة: تعب مفرط وخمول مستمر.
  • الشهية: زيادة الرغبة في تناول الكربوهيدرات والحلويات.
  • الوزن: غالبًا زيادة ملحوظة.
  • المزاج: كآبة عميقة تتزامن مع قصر النهار وبرودة الطقس.

ب- الاكتئاب الموسمي الصيفي (الأقل شيوعًا):

  • النوم: أرق وصعوبة في النوم (Insomnia).
  • الطاقة: شعور بالتوتر والعصبية.
  • الشهية: فقدان الشهية ونقصان الوزن.
  • الأعراض الجسدية: مشاعر قلق زائد، اضطرابات في المعدة، أو هجمات هلع أحيانًا.
  • المزاج: تهيج وقلق أكثر من الحزن الصامت.

4- الأعراض في الحالات الشديدة

  • فقدان القدرة الكاملة على القيام بالأنشطة اليومية (Functional Impairment).
  • انهيار العلاقات الاجتماعية بسبب الانعزال أو العصبية الزائدة.
  • محاولات إيذاء النفس أو التفكير بالانتحار في غياب الدعم أو العلاج المناسب.

أسباب الاكتئاب الموسمي

1- العوامل البيولوجية والفسيولوجية

أ- نقص الضوء الطبيعي:

  • قلة التعرض لأشعة الشمس في الشتاء تؤدي إلى اضطراب الساعة البيولوجية (Circadian Rhythm)، مما يربك تنظيم النوم واليقظة والمزاج.
  • انخفاض كمية الضوء تؤثر على عمل الغدة الصنوبرية (Pineal Gland) التي تنظم إفراز الميلاتونين.

ب- انخفاض السيروتونين (Serotonin Deficiency):

  • السيروتونين هو ناقل عصبي مرتبط مباشرة بالمزاج والشعور بالسعادة.
  • قلة الضوء تقلل من إفرازه، مما يزيد احتمالية الاكتئاب.

ج- زيادة الميلاتونين (Melatonin):

  • مع طول فترة الليل في الشتاء يزداد إفراز الميلاتونين، فينتج عنه الخمول والرغبة الزائدة في النوم.
  • هذا الاختلال بين السيروتونين والميلاتونين يعد أساسًا بيولوجيًا مهمًا للاكتئاب الموسمي.

د- تغيرات في فيتامين D:

  • قلة التعرض للشمس تقلل من تكوين فيتامين D في الجلد، وهو عنصر مرتبط بوظائف الدماغ وتنظيم المزاج.
  • دراسات عدة تشير إلى وجود علاقة بين نقص فيتامين D وزيادة حالات الاكتئاب.

2- العوامل الوراثية والجينية

  • وجود تاريخ عائلي للاكتئاب أو الاضطرابات المزاجية يزيد من احتمال الإصابة.
  • بعض الدراسات حددت جينات مرتبطة بتنظيم السيروتونين قد تجعل بعض الأشخاص أكثر عرضة للاكتئاب الموسمي.

3- العوامل النفسية والاجتماعية

  • الاجتماعية: الشتاء وفترات البرد الطويلة تدفع كثيرين إلى الانسحاب من الأنشطة الاجتماعية، ما يزيد من الشعور بالوحدة.
  • الضغوط النفسية: الظروف الاقتصادية، مشكلات العمل، أو التوتر العائلي تتفاقم مع ضعف الطاقة وانخفاض النشاط في الشتاء.
  • أسلوب الحياة قليل النشاط: قلة الحركة أو ممارسة الرياضة في فترات البرد تضعف إفراز الإندورفين (Endorphins)، ما يفاقم الأعراض.
  • التأثيرات الثقافية والموسمية: بعض الثقافات لا تهيئ أنشطة كافية لفصل الشتاء، ما يعزز الركود والملل.

4- عوامل بيئية إضافية

  • الموقع الجغرافي: تزداد معدلات الاكتئاب الموسمي كلما ابتعدنا عن خط الاستواء (مثل الدول الاسكندنافية وكندا)، حيث تقل ساعات النهار شتاءً.
  • التغيرات المناخية: تقلبات الطقس المفاجئة، قصر النهار، وطول الليل تعزز الاضطراب.

طرق علاج الاكتئاب الموسمي

1- العلاج بالضوء (Light Therapy)

  • الفكرة الأساسية: تعويض نقص ضوء الشمس الطبيعي باستخدام أجهزة خاصة تبعث ضوءًا أبيض ساطعًا
  • طريقة الاستخدام: الجلوس أمام المصباح لمدة 20–30 دقيقة يوميًا، ويفضل في الصباح الباكر.
  • الفعالية: أظهرت الأبحاث أن العلاج بالضوء يحسن المزاج لدى 60–80% من المرضى خلال 1–2 أسبوع.
  • الاحتياطات: يجب استشارة الطبيب عند وجود مشاكل في العين أو عند استخدام أدوية تزيد حساسية الضوء.

2- العلاج النفسي (Psychotherapy)

  • العلاج السلوكي المعرفي (CBT for SAD): يركز على تغيير الأفكار السلبية المرتبطة بفصل الشتاء.
  • العلاج الجماعي: يساعد على تقليل العزلة الاجتماعية من خلال مشاركة الخبرات والدعم المتبادل.
  • العلاج القائم على اليقظة (Mindfulness Therapy): يساهم في تقليل التوتر والقلق المرتبطين بالأعراض.

3- العلاج الدوائي (Pharmacotherapy)

  • مضادات الاكتئاب (Antidepressants): SSRIs مثل سيرترالين (Sertraline)، فلوكسيتين (Fluoxetine)، باروكستين (Paroxetine).
  • بوبروبيون (Bupropion): أقرته إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) كخيار وقائي فعال ضد الاكتئاب الموسمي عند تناوله قبل بداية الشتاء.
  • الاستخدام: يوصف عادة في الحالات المتوسطة إلى الشديدة، أو عند فشل العلاج بالضوء وحده.

4- تغيير نمط الحياة (Lifestyle Modifications)

  • التعرض الطبيعي للضوء: الخروج صباحًا ولو لفترات قصيرة للحصول على ضوء الشمس المباشر.
  • النشاط البدني: التمارين الهوائية (مثل المشي، الجري، ركوب الدراجة) ترفع مستويات الإندورفين وتحسن المزاج.
  • النظام الغذائي: تناول أطعمة غنية بـ الأوميغا-3 (كالأسماك الدهنية)، والخضروات الطازجة، والحبوب الكاملة.
  • تنظيم النوم: الحفاظ على أوقات ثابتة للنوم والاستيقاظ مع تجنب السهر المفرط.

الخاتمة

الاكتئاب الموسمي اضطراب حقيقي قد يؤثر على جودة الحياة بشكل ملحوظ، لكنه ليس مرضًا بلا حلول. عبر التشخيص المبكر واستخدام العلاج المناسب، يمكن السيطرة على أعراضه والحد من تأثيراته السلبية. إن رفع الوعي حول هذا النوع من الاكتئاب، خاصة في المجتمعات التي تشهد تغيرات موسمية حادة، يساهم في تخفيف المعاناة ودمج المصابين به في حياة صحية وإيجابية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *